الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)} قوله: {إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ} أي: المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين. وقيل: هم الذين اتقوا جميع المعاصي {في جنات} وهي البساتين، {وعيون} وهي الأنهار. قرئ بضم العين من {عيون} على الأصل، وبالكسر مراعاة للياء. والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنة وعين {ادخلوها} قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول أي قيل لهم: أدخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية، وروي عن يعقوب بضم الهمزة مقطوعة، وفتح الخاء على أنه فعل مبني للمفعول أي: أدخلهم الله إياها. وقد قيل: إنهم إذا كانوا في جنات وعيون، فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها، وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات، فإذا انتلقوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها: ادخلوها، ومعنى {بِسَلامٍ ءامِنِينَ} بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، أو مسلمين على بعضهم بعضاً، أو مسلماً عليهم من الملائكة، أو من الله عزّ وجلّ. {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} الغلّ: الحقد والعداوة، وقد مرّ تفسيره في الأعراف، وانتصاب {إِخْوَانًا} على الحال، أي: إخوة في الدين والتعاطف {على سُرُرٍ متقابلين} أي: حال كونهم على سرر، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل، ينظر بعضهم إلى وجه بعض، والسرر جمع سرير. وقيل: هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، ومنه قولهم: سرّ الوادي لأفضل موضع منه {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي: تعب وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة؛ لأنها نعيم خالص، ولذّة محضة تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوا عفوا {وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أبداً، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم. فإنّ علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدّر لذته. ثم قال سبحانه بعد أن قصّ علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل {نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم} أي: أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم، الكثير الرحمة لهم، كما حكمت به على نفسي: «إن رحمتي سبقت غضبي»، اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة. ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة، أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير، ليكونوا راجين خائفين، فقال: {وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم} أي: الكثير الإيلام. وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير، صاروا في حالة وسط بين اليأس والرجاء، وخير الأمور أوساطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الأنس والهيبة. وجملة {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} معطوفة على جملة {نبئ عبادي} أي: أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنّة الله سبحانه في عباده، وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين، كان في ذلك تقريراً لكونه الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، وقد مرّ تفسير هذه القصة في سورة هود، وانتصاب {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} بفعل مضمر معطوف على {نَبّئ عِبَادِى} أي: واذكر لهم دخولهم عليه، أو في محل نصب على الحال. والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد وإن كانوا جماعة، وسمي ضيفاً لإضافته إلى المضيف {فَقَالُواْ سَلامًا} أي: سلمنا سلاماً {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] وقيل: أنكر السلام منهم، لأنه لم يكن في بلادهم. وقيل: أنكر دخولهم عليه بغير استئذان. {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} أي قالت الملائكة: لا تخف. وقرئ «لا تاجل» و«لا توجل» من أوجله أي: أخافه، وجملة {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ} مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل، والعليم: كثير العلم. وقيل: هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن، وهذا الغلام: هو إسحاق كما تقدّم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى} قرأ الجمهور بألف الاستفهام. وقرأ الأعمش «بشرتموني» بغير الألف {على أَن مَّسَّنِىَ الكبر} في محل نصب على الحال، أي: مع حالة الكبر والهرم {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} استفهام تعجب، كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه، والمعنى: فبأي شيء تبشرون؟ فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصح. وقرأ نافع «تبشرونِ» بكسر النون والتخفيف وإبقاء الكسرة لتدل على الياء المحذوفة. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بكسر النون مشدّدة على إدغام النون في النون، وأصله: تبشرونني. وقرأ الباقون «تبشرون» بفتح النون. {قَالُواْ بشرناك بالحق} أي: باليقين الذي لا خلف فيه، فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد، ولا يستحيل عليه شيء، فإنه القادر على كل شيء {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} هكذا قرأ الجمهور بإثبات الألف. وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب «من القنطين» بغير ألف. وروي ذلك عن أبي عمرو أي: من الآيسين من ذلك الذي بشرناك به {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} قرئ بفتح النون من «يقنط» وبكسرها وهما لغتان. وحكي فيه ضم النون، و{الضالون} المكذبون، أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب، أي: إنما استبعدت الولد لكبر سني، لا لقنوطي من رحمة ربي. ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه فقال: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} الخطب: الأمر الخطير والشأن العظيم، أي: فما أمركم وشأنكم، وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، وكأنه قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} أي: إلى قوم لهم إجرام، فيدخل تحت ذلك الشرك، وما هو دونه، وهؤلاء القوم هم: قوم لوط. ثم استثنى منهم من ليسوا مجرمين فقال: {إِلا ءالَ لُوطٍ} وهو استثناء متصل؛ لأنه من الضمير في {مجرمين} ولو كان من قوم لكان منقطعاً لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين، وليس آل لوط مجرمين. ثم ذكر ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقال: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أجمعين} أي: آل لوط، وهم أتباعه وأهل دينه، وهذه الجملة مستأنفة على تقدير كون الاستثناء متصلاً كأنه قيل: ماذا يكون حال آل لوط؟ فقال: {إنا لمنجوهم أجمعين} وأنما على تقدير كون الاستثناء منقطعاً فهي خبر، أي: لكن آل لوط ناجون من عذابنا. وقرأ حمزة والكسائي «لمنجوهم» بالتخفيف من أنجا. وقرأ الباقون بالتشديد من: نجي. واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم، والتنجية والإنجاء: التخليص مما وقع فيه غيرهم. {إِلاَّ امرأته} هذا الاستثناء من الضمير في منجوهم إخراجاً لها من التنجية، والمعنى: قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم إلاّ إمرأته فإنها من الهالكين. ومعنى {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة. والغابر: الباقي، قال الشاعر: لا تكْسَع الشول بأغبارها *** إنك لا تدري من الناتج والإغبار: بقايا اللبن. قال الزجاج: معنى قدّرنا: دبرنا، وهو قريب من معنى قضينا. وأصل التقدير: جعل الشيء على مقدار الكفاية. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر والمفضل «قدرنا» بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. قال الهروي: هما بمعنى، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة من كونه مع فعل الله سبحانه، لما لهم من القرب عند الله. {فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون} هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك من يستحق الهلاك، وتنجية من يستحق النجاة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي قال لوط مخطاباً لهم: إنكم قوم منكرون، أي: لا أعرفكم، بل أنكركم {قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه، فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره، كأنهم قالوا: ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك. {واتيناك بالحق} أي: باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردّد، وهو العذاب النازل بهم لا محالة {وِإِنَّا لصادقون} في ذلك الخبر الذي أخبرناك. وقد تقدّم تفسير قوله: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} في سورة هود {واتبع أدبارهم} أي: كن ورائهم تذودهم لئلا يختلف منهم أحد فيناله العذاب {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أي: لا تلتفت أنت ولا يلفتت أحد منهم فيرى ما نزل بهم من العذاب، فيشتغل بالنظر في ذلك، ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين. وقيل: معنى لا يلتفت: لا يتخلف {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضيّ إليها، وهي جهة الشام. وقيل: مصر. وقيل: قرية من قرى لوط. وقيل: أرض الخليل. {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} أي: أوحينا إلى لوط {ذَلِكَ الأمر} وهو إهلاك قومه، ثم فسره بقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ} قال الزجاج: موضع «أن» نصب، وهو بدل من {ذلك الأمر}، والدابر: هو الآخر، أي: أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح. وانتصاب {مُّصْبِحِينَ} على الحال، أي: حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} [الأنعام: 45]. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {ءامِنِينَ} قال: آمنوا الموت، فلا يموتون، ولا يكبرون، ولا يسقمون، ولا يعرون، ولا يجوعون. وأخرج ابن جرير عن عليّ {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} قال: العداوة. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن الحسن البصري قال: قال عليّ بن أبي طالب: فينا والله أهل بدر نزلت: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين}. وأخرج ابن عساكر، وابن مردويه عنه في الآية، قال: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب، في بني هاشم، وبني تميم، وبني عديّ، فيّ وفي أبي بكر وعمر. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن كثير النواء، قال: قلت لأبي جعفر إن فلاناً حدثني عن عليّ بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعليّ {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} قال: والله إنها لفيهم أنزلت؛ وفيمن تنزل إلاّ فيهم؟ قلت: وأي غلّ هو؟ قال: غلّ الجاهلية، إن بني تميم وبني عديّ وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل عليّ يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه عن عليّ من طرق أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم} الآية، فقال رجل من همدان: الله أعدل من ذلك، فصاح عليّ عليه صيحة تداعى لها القصر، وقال: فيمن إذن إن لم نكن نحن أولئك. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والطبراني، وابن مردويه عن عليّ قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}. وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: نزلت في عشرة: أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي صالح موقوفاً عليه. وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {على سُرُرٍ متقابلين} قال: لا يرى بعضهم قفا بعض. وأخرجه ابن المنذر، وابن مردويه عن مجاهد، عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو القاسم البغوي، وابن مردويه، وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: " {إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين} قال: المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض " وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} قال: المشقة والأذى. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: " ألا أراكم تضحكون "؟ ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري، فقال: إني لما خرجت جاء جبريل فقال: يا محمد، إن الله- عزّ وجلّ- يقول: لمَ تقنط عبادي؟ {نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم}». وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: «مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال: اذكروا الجنة، واذكروا النار»، فنزلت: {نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم}. وأخرج الطبراني، والبزار، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته، لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار» وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ {مّنَ القانطين} قال: الآيسين. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} يعني: الباقين في عذاب الله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} قال: أنكرهم لوط، وفي قوله: {بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} قال: بعذاب قوم لوط. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة {بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} قال: يشكون. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {واتبع أدبارهم} قال: أمر أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال: أخرجهم الله إلى الشام. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} قال: أوحيناه إليه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ} يعني: استئصالهم وهلاكهم.
{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال: {وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ} أي: أهل مدينة قوم لوط، وهي سلام كما سبق، وجملة {يستبشرون} في محل نصب على الحال، أي: مستبشرون بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم فقال لهم لوط {إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى} وحد الضيف؛ لأنه مصدر كما تقدّم، والمراد: أضيافي، وسماهم ضيفاً؛ لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مردا حسان الوجوه، فلذلك طمعوا فيهم {فَلاَ تَفْضَحُونِ} يقال: فضحه يفضحه فضيحة وفضحاً: إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره. والمعنى: لا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحون بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضخ المضيف {واتقوا الله} في أمرهم {وَلاَ تُخْزُونِ} يجوز أن تكون من الخزي: وهو الذلّ والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل. وقد تقدّم تفسير ذلك في هود. {قَالُواْ} أي: قوم لوط، مجيبين له: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} الاستفهام للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، أي: ألم نتقدّم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وقيل: نهوه عن ضيافة الناس، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من هذين الأمرين. {قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى} فتزوّجوهنّ {إِن كُنتُمْ فاعلين} ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوّجوهنّ حلالاً ولا تركبوا الحرام. وقيل: أراد ببناته نساء قومه، لكون النبيّ بمنزلة الأب لقومه، وقد تقدّم تفسير هذا في هود {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} العمر والعمر بالفتح والضم واحد، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح، لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم. ذكر ذلك الزجاج. قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله، جلّ جلاله، بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي، فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: ما الذي يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتى ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم على الله منه، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع. قال القرطبي: ما قاله حسن، فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً معترضاً في قصة لوط. فإن قيل: قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين، ونحو ذلك فما فيهما من فضل؟ وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلاّ وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه: أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول أي: قالت الملائكة للوط: لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له. انتهى. وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله، فليس لعباده أن يقسموا بغيره. وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وقيل: الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون، وطور سينين، والنجم، والضحى، والشمس، والليل، ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به، أي: وخالق التين، وكذلك ما بعده. وفي قوله: {لَعَمْرُكَ} أي: وخالق عمرك. ومعنى {إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}: لفي غوايتهم يتحيرون، جعل الغواية، لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة، والضمير لقريش. على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو القوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} العظيمة، أو صيحة جبريل حال كونهم {مُشْرِقِينَ} أي: داخلين في وقت الشروق، يقال: أشرقت الشمس أي: أضاءت. وشرقت: إذا طلعت، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وأشرق القوم: إذا دخلوا في وقت شروق الشمس. وقيل: أراد شروق الفجر. وقيل: أوّل العذاب كان عند شروق الفجر وامتدّ إلى طلوع الشمس. والصيحة: العذاب {فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} أي: عالي المدينة سافلها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} من طين متحجر. وقد تقدّم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود. {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي: في المذكور من قصتهم، وبيان ما أصابهم {لآيَاتٍ} لعلامات يستدلّ بها {لِلْمُتَوَسّمِينَ}: للمتفكرين الناظرين في الأمر ومنه قول زهير: وفيهن ملهى للصديق ومنظر *** أنيق لعين الناظر المتوسم وقال الآخر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة *** بعثوا إليّ عريفهم يتوسم وقال أبو عبيدة: للمتبصرين. وقال ثعلب: الواسم: الناظر إليك من قرنك إلى قدمك. والمعنى متقارب، وأصل التوسم: التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم، وهو التأثير بحديدة في جلد البعير {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} يعني: قرى قوم لوط أو معدينتهم على طريق ثابت، وهي الطريق من المدينة إلى الشام، فإن السالك في هذه الطريق يمرّ بتلك القرى {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور من المدينة أو القرى {لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} يعتبرون بها، فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ} قال: استبشروا بأضياف نبيّ الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} قال: يقولون: أولم ننهك أن تضيف أحداً، أو تؤويه؟ {قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فاعلين} أمرهم لوط بتزويج النساء، وأراد أن يبقي أضيافه ببناته. وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} يقول: وحياتك يا محمد، وعمرك وبقائك في الدنيا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لَعَمْرُكَ} قال: لعيشك. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: ما حلف الله بحياة أحد إلاّ بحياة محمد قال: {لَعَمْرُكَ} الآية. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري يرونه كقوله وحياتي. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة {إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالهم يلعبون. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية: لفي غفلتهم يتردّدون. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {فأخذتهم الصيحة} مثل الصاعقة، وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة. وأخرج ابن جرير عنه {مُشْرِقِينَ} قال: حين أشرقت الشمس. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً} قال: علامة، أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله، فيقول: هاتوا كذا وكذا، فإذا رأوه، عرفوا أنه حق. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {لِلْمُتَوَسّمِينَ} قال: للناظرين. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال: للمعتبرين. وأخرج ابن جريج، وابن المنذر عن مجاهد قال: للمتفرّسين، وأخرج البخاري، في التاريخ، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن السني، وأبو نعيم، وابن مردويه، والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ}» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} يقول: لبهلاك. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لبطريق مقيم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لبطريق واضح.
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} قوله: {وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة} «إن» هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، أي: وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. والأيكة: الغيضة، وهي جماع الشجر. والجمع: الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوماً، وهو المقل، فالمعنى: وإن كان أصحاب الشجر المجتمع. وقيل: الأيكة: اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة: الأيكة، وليكة: مدينتهم كمكة وبكة، وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، وقد تقدّم خبرهم، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، والضمير في {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} يرجع إلى مدينة قوم لوط، ومكان أصحاب الأيكة، أي: وإن المكانين لبطريق واضح. والإمام: اسم لما يؤتمّ به، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماماً، لأنه يؤتمّ ويتبع. وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتمّ به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأن شعيباً كان ينسب إليهما. ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين} الحجر: اسم لديار ثمود، قاله الأزهري. وهي ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام. وقال: {المرسلين}، ولم يرسل إليهم إلاّ صالح؛ لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله. وقيل: كذبوا صالحاً ومن تقدّمه من الأنبياء. وقيل: كذبوا صالحاً، ومن معه من المؤمنين {وءاتيناهم ءاياتنا} أي الآيات المنزلة على نبيهم، ومن جملتها: الناقة. فإن فيها آيات جمة، كخروجها من الصخرة، ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها {فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي: غير معتبرين، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم. {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا} النحت في كلام العرب: البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي: براه، وفي التنزيل: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي: تنجرون. وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتاً، أي: يخرقونها في الجبال. وانتصاب {ءامِنِينَ} على الحال. قال الفراء: آمنين من أن ينقع عليهم، وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب ركوناً منهم على قوّتها ووثاقتها. {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ} أي: داخلين في وقت الصبح. وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف، وفي هود، وتقدم أيضاً قريباً. {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال. {وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق} أي: متلبسة بالحق، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل: المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه: {وَللَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض * لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31]. وقيل: المراد بالحق: الزوال؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه، فقال: {فاصفح الصفح الجميل} أي: تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً. وقيل: فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل: وهذا منسوخ بآية السيف {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} أي: الخالق للخلق جميعاً، العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم. وقد أخرج ابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً " وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة. ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيكة: الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أصحاب الأيكة: أهل مدين، والأيكة: الملتفة من الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأيكة: مجمع الشيء. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال في قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} طريق ظاهر. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال: أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أصحاب الحجر ثمود وقوم صالح. وأخرج البخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلاّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " وأخرج ابن مردويه عنه قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، وعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال: " إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، فلا تدخلوا عليهم ". وأخرج ابن مردويه، عن سبرة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالحجر لأصحابه: " من عمل من هذا الماء شيئاً فليلقه " قال: ومنهم من عجن العجين، ومنهم من حاس الحيس. وأخرج ابن مردويه، وابن النجار عن عليّ في قوله: {فاصفح الصفح الجميل} قال: الرضا بغير عتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين: إنها الفاتحة. قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والكلبي. وزاد القرطبي: أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري: الضحاك وسعيد بن جبير. وقد روي ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه، فتعين المصير إليه. وقيل: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة الأنفال والتوبة؛ لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية. روي هذا القول عن ابن عباس. وقيل: المراد بالمثاني: السبعة الأحزاب، فإنها سبع صحائف. والمثاني: جمع مثناة من التثنية، أو جمع مثنية. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها، فعلى القول الأوّل يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني: أنها تثنى، أي: تكرّر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية: أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها، وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية: هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها، وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني: القرآن كله الضحاك، وطاوس، وأبو مالك، وهو رواية عن ابن عباس واستدلوا بقوله تعالى: {كتابا متشابها مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]. وقيل: المراد بالسبع المثاني: أقسام القرآن، وهي: الأمر، والنهي، والتبشير، والإنذار، وضرب الأمثال، وتعريف النعم، وأنباء قرون ماضية. قال زياد بن أبي مريم، ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرّر أنها المرادة بهذه الآية، فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها. {والقرآن العظيم} معطوف على {سبعا من المثاني}، ويكون من عطف العام على الخاص، لأن الفاتحة بعض من القرآن. وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال؛ لأنها بعض من القرآن. وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر، كما قيل في قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام *** ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة: أن هذه السورة مكية، وأكثر السبع الطوال مدنية، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني} أنه قد تقدّم إيتاء السبع على نزول هذه الآية، و«من» في المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال. ذكر معنى ذلك الزجاج فقال: هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الإشباع. ثم لما بين لرسوله الله صلى الله عليه وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ} أي: لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمنّ لها، والأزواج: الأصناف، قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج: القرناء. قال الواحدي: إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء: إذا أدام النظر نحوه. وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال بعضهم: معنى الآية لا تحسدنّ أحداً على ما أوتي من الدنيا، وردّ بأن الحسد منهي عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدنّ بغير واو، لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} حيث لم يؤمنوا، وصمموا على الكفر والعناد. وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك الآخرة. والأول أولى. ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم، وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم، أمره أن يتواضع للمؤمنين، فقال: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} [الإسراء: 24]، وقول الكميت: خفضت لهم مني جناحي مودة *** إلى كنف عطفاه أهل ومرحب وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه، بسط جناحه، ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي: وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] ومنه قول الشاعر: وحسبك فتنة لزعيم قوم *** يمدّ على أخي سُقم جناحا {وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين} أي: المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} قيل: المفعول محذوف، أي: مفعول {أنزلنا} والتقدير: كما أنزلنا على المقتسمين عذاباً، فيكون المعنى: إني أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم، كقوله تعالى: {أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]. وقيل: إن الكاف زائدة، والتقدير: إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب. وقيل: هو متعلق بقوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك} أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون، والأولى أن يتعلق بقوله: {إِنّى أَنَا النذير المبين} لأنه في قوّة الأمر بالإنذار. وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا: شاعر، وربما قالوا: كاهن، فقيل لهم: مقتسمين؛ لأنهم اقتسموا هذه الطرق. وقيل: إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعراً، وبعضه سحراً، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأوّلين. قاله قتادة. وقيل: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون القرآن استهزاء، فيقول بعضهم: هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس. وقيل: إنهم قسموا كتابهم وفرّقوه وبدّدوه وحرّفوه. وقيل: المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: {تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. وقيل: تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها، قاله الأخفش. وقيل: إنّهم العاص بن وائل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف، ومنبه بن الحجاج. ذكره الماوردي. {الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} جمع عضة، وأصلها: عضوة، فعلة من عضى الشاة: إذا جعلها أجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة، ونحو ذلك. وقيل: هو مأخوذ من عضته: إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا ذلك عوضاً عما لحقها من الحذف؛ وقيل: معنى {عضين} إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، ومما يؤيد، أن معنى عضين التفريق، قول رؤبة: وليس دين الله بالعضين *** أي: بالمفرق. وقيل: العضة والعضين في لغة قريش: السحر، وهم يقولون: للساحر: عاضه، وللساحرة: عاضهة، ومنه قول الشاعر: أعوذ بربي من النافثات *** في عقد العاضهة والعضه وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة، وفسر بالساحرة والمستسحرة، والمعنى: أنهم أكثروا البهت على القرآن، وسموه: سحراً وكذباً وأساطير الأوّلين، ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة، وكذلك سنّة، والأصل: سنهة. قال الكسائي: العضة: الكذب والبهتان، وجمعها عضون. وقال الفراء: إنه مأخوذ من العضاه. وهي شجر يؤذي ويجرح كالشوك. ويجوز أن يراد بالقرآن: التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين: هم اليهود والنصارى، أي: جعلوهما أجزاء متفرّقة، وهو أحد الأقوال المتقدّمة. {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لنسألنّ هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها؛ وقيل: إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد، والعموم في {عما كانوا يعملون}، يفيد ما هو أوسع من ذلك. وقيل: إن المسؤولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار. ويدلّ عليه قوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8]، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25- 26]. ويمكن أن يقال: إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم. {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به. أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع: الفرق والشق، يقال: صدعته فانصدع، أي: انشق، وتصدّع القوم، أي: تفرّقوا، ومنه {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي: يتفرقون. قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر أي: أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر، وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر أي: اقصد؛ وقيل: فاصدع بما تؤمر أي: فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرّقون، والأولى أن الصدع الإظهار، كما قاله الزجاج والفراء وغيرهم. قال النحويون: المعنى بما تؤمر به من الشرائع، وجوّزوا أن تكون مصدرية أي: بأمرك وشأنك. قال الواحدي: قال الفسرون: أي اجهر بالأمر أي: بأمرك بعد إظهار الدعوة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية، ثم أمره سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين، فقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} أي: لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة. ثم أكد هذا الأمر، وثبت قلب رسوله بقوله: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} مع كونهم كانوا من أكابر الكفار، وأهل الشوكة فيهم فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن الحارث بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطُّلاطِلَة، كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعاً وكفاهم أمرهم في يوم واحد، ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: {الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} فلم يكن ذنبهم مجرّد الاستهزاء، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه، ثم توعدهم فقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه. ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم، فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب. وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني، ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} أي: متلبساً بحمده، أي: افعل التسبيح المتلبس بالحمد {وَكُنْ مّنَ الساجدين} أي: المصلين، فإنك إذا فعلت ذلك، كشف الله همك، وأذهب غمك، وشرح صدرك. ثم أمره بعبادة ربه، أي: بالدوام عليها إلى غاية هي قوله {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي: الموت. قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: يعني الموت لأنه موقن به. قال الزجاج: المعنى: اعبد ربك أبداً، لأنه لو قيل: اعبد ربك بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسان مرّة أن يكون مطيعاً. فإذا قال: حتى يأتيك اليقين، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عمر في قوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني} قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب. وأخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني وابن مردويه، والبيهقي من طرق عن عليّ بمثله. وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود مثله، وزاد: والقرآن العظيم} سائر القرآن. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد، فرفعها في أمّ الكتاب فادخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحد قبل. قيل: فأين الآية السابعة؟ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم. وروي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن الضريس، وأبو الشيخ، وابن مروديه عن أبي هريرة قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب. وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: السبع المثاني: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين}. وروي نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرت، فقال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم» وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم»، فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدّمنا. وأخرج ابن مردويه عن عمر، قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج الفريابي، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج الدارمي، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب مثله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: ماثنى من القرآن، ألم تسمع لقول الله: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: المثاني: القرآن، يذكر الله القصة الواحدة مراراً. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مر، وأنه، وبشر وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} قال: نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {أزواجا مّنْهُمْ} قال: الأغنياء الأمثال والأشباه. وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمدّ عينه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع إلى قوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني}، وإلى قوله: {وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقى} [طه: 131] وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» فقال: إن المعنى: يستغنى به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {واخفض جَنَاحَكَ} قال: اخضع. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} الآية قال: هم أهل الكتاب، جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه قال: عضين: فرقاً. وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش، كانوا يصدّون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأخرج الترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي في قوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: «عن قول لا إله إلاّ الله». وأخرجه ابن أبي شيبة، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفاً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فامضه، وفي عليّ بن أبي طلحة مقال معروف. وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه، وجميع من أرسل إليه. وأخرج ابن المنذر عنه {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} قال: أعلن بما تؤمر. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} قال: نسخه قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]. وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه، وأبو نعيم، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا كفيناك المستهزئين} قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، وذكر قصة هلاكهم. وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم، ونقص على طول في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أوحي إليّ أن أجمع المال، وأكن من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين. {وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين}» وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه، والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة ابن أوس الطائفي قال: حدثني أبان بن عثمان عن أبيه، عن جدّه يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني. وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال: الموت. وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} قوله: {أتى أَمْرُ الله} أي: عقابه للمشركين. وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه. وقيل: إن المراد بأمر الله: حكمه بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود. وقيل: إن المراد بإتيانه: إتيان مباديه ومقدّماته {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} نهاهم عن استعجاله، أي: فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]، الآية. والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم. {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه وترفع عن إشراكهم، أو عن أن يكون له شريك، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق، لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركاً. {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} قرأ المفضل عن عاصم " تنزل الملائكة "، والأصل: تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش " تنزل " على البناء للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم " ننزل " بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون {ينزل الملائكة} بالياء التحتية إلاّ أن ابن كثير، وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه؛ ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال، تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]. وسمي الوحي روحاً لأنه يحيي قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي: القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد. وقيل: المراد أرواح الخلائق. وقيل: الروح الرحمة. وقيل: الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى مع، «ومن» في {مِنْ أَمْرِهِ} بيانية، أي: بأشياء أو مبتدئاً من أمره، أو صفة للروح، أو متعلق ب {ينزل}، ومعنى {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء {أَنْ أَنْذِرُواْ}. قال الزجاج: {أَنْ أَنْذِرُواْ} بدل من الروح، أي: ينزلهم بأن أنذروا، و«أن» إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن مقدّر، أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا، أي: أعلموا الناس {أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} أي: مروهم بتوحيدي، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً. والضمير في أنه للشأن. {فاتقون} الخطاب للمستعجلين على طريق لالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله، ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده، ذكر دلائل التوحيد فقال: {خُلِقَ السموات والأرض بالحق} أي: أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليهما بالحق، أي: للدلالة على قدرته ووحدانيته. وقيل: المراد بالحق هنا: الفناء والزوال {تَعَالَى} الله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: ترفع وتقدّس عن إشراكهم، أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له. ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية، قدّمه وخصه بالذكر، فقال: {خَلَقَ الإنسان} وهو اسم لجنس هذا النوع {مِن نُّطْفَةٍ} من جماد يخرج من حيوان، وهو المنيّ فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح، وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها {فَإِذَا هُوَ} بعد خلقه على هذه الصفة {خَصِيمٌ} أي: كثير الخصومة والمجادلة، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى {مُّبِينٌ} ظاهر الخصومة وأضحها، وقيل: يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} [ياس: 77]. ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها، فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان: وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاء فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم: واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: {فِيهَا دِفْء} الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها. والجملة في محلّ النصب على الحال {ومنافع} معطوف على {دفء} وهي: درّها وركوبها ونتاجها، والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل: إن الدفء: النتاج واللبن. قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضاً: السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً. وقيل: المراد بالمنافع النتاج خاصة؛ وقيل: الركوب {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي: من لحومها وشحومها. وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها. وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر. {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} أي: لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: في هذين الوقتين، وهما وقت ردّها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي. والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة. يقال: سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها، لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب. {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره، وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل: المراد أبدانهم {إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} أي: لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلاّ بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر، وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين؛ وقيل: المراد بالبلد مكة، وقيل: اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، {وشق الأنفس}: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً. والمكسور بمعنى النصف. يقال: أخذت شق الشاة، وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلاّ بذهاب نصف الأنفس من التعب، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعمّ العام، أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلاّ بشقّ الأنفس. {والخيل والبغال والحمير} بالنصب عطفاً على الأنعام، أي: وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل. كضائن واحد الضأن. وقيل: لا واحد له. ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وعطف {زِينَةُ} على محل {لتركبوها} لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها. ولم يقل: لتتزينوا بها، حتى يطابق {لتركبوها} لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة: فعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه: أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية، لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقها لتركبوها، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة. وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات. وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر، وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره، والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، ومجاهد وأبو عبيدة وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل. ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضاً لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل، لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل: أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا. وقيل: المراد: من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل: هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: هو خلق السوس في النبات، والدود في الفواكه؛ وقيل: عين تحت العرش؛ وقيل نهر من النور. وقيل: أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد. {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} القصد: مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى: وعلى الله قاصد السبيل، أي: هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع؛ وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين. والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب {وَمِنْهَا جَائِرٌ} الضمير في {منها} راجع إلى السبيل بمعنى: الطريق، لأنها تذكر وتؤنث. وقيل: راجع إليها بتقدير مضاف أي: ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرئ القيس: ومن الطريقة جائر وهدى *** قصد السبيل ومنه ذو دخل وقيل: إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه، قيل: وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل: أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله " ومنكم جائر "، وكذا قرأ عليّ، {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أجمعين} أي: ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق، والدلالة عليها {وَشَفَتَيْنِ وهديناه النجدين} [البلد: 10]. وأما الإيصال إليها بالفعل، فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً، والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: لما نزل {أتى أَمْرُ الله} ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فسكنوا. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} قاموا، فنزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس {أتى أَمْرُ الله} قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج قال: «لما نزلت هذه الآية {أتى أَمْرُ الله} قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8]. الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {أتى أَمْرُ الله} قال: الأحكام والحدود والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: الروح أمر من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم. وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح. ثم تلا {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38]. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: القرآن. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْء} قال: الثياب {ومنافع} قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً، قال: نسل كل دابة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ} يعني: مكة {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} قال: لو تكلفتموه، لم تطيقوه إلاّ بجهد شديد. وقد ورد في حلّ أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما، من حديث أسماء، قالت: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه. وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً. وهما على شرط مسلم. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر، قال: " نهى رسول الله عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل " وأما ما أخرجه أبو عبيد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير "، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام، وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح، لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ، على أنه يكون أن هذا الحديث المصرّح بالتحريم متقدّم على يوم خيبر، فيكون منسوخاً. وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: «البراذين». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء " ثم ساق من أوصافها ما يدلّ على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره: «فذلك قوله {ويخلق ما لا تعلمون}». وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة. {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: السبل المتفرّقة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: من السبل ناكب عن الحق. قال: وفي قراءة ابن مسعود " ومنكم جائر ". وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنه كان يقرأ هذه الآية " ومنكم جائر ".
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)} لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات، أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: {هُوَ الذى أَنْزَلَ مِنَ السماء} أي: من جهة السماء، وهي السحاب {مَاء} أي: نوعاً من أنواع الماء، وهو المطر {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} يجوز أن يتعلق {لكم} ب {أنزل} أو هو خبر مقدّم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لماء، {وَمِنْهُ} في محل نصب على الحال، والشراب: اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض} [الزمر: 21] وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل: الشجر: كل ماله ساق كقوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له، وجب أن يكون الشجر ماله ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي: في الشجر ترعون مواشيكم، يقال: سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، وأسمتها، أي: أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم: الإبعاد في المرعى. قال الزجاج: أخذ من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها. {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} قرأ أبو بكر عن عاصم «ننبت» بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، أي: ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدّم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدّهن، وهو جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة. ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال: {وَمِن كُلّ الثمرات} كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقرأ أبيّ بن كعب «ينبت لكم به الزرع» يرفع الزرع وما بعده {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي: الإنزال والإنبات {لآيَةً} عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرّد بالربوبية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته. {وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار} معنى تسخيرهما للناس: تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائماً، كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه. وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان. ومعنى مسخرات: مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام: «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرفع على الابتداء والخبر. وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على {الليل والنهار}، وقرأ حفص عن عاصم برفع {النجوم} على أنه مبتدأ وخبره {مسخرات بِأَمْرِهِ} وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالاً مؤكدة، لأن التسخير قد فهم من قوله: {وَسَخَّرَ}؛ وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مسخرات، {إِنَّ فِى ذَلِكَ} التسخير {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرّده، وعدم وجود شريك له. وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وجمعها ليطابق قوله {مسخرات}؛ وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها، بخلاف ما تقدّم من الإنبات، فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار، وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما. {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض} أي: خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: خلقهم، فهو ذارئ، ومنه الذرّية، وهي: نسل الثقلين، وقد تقدّم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعاً ونصباً، أي: وسخر لكم ما ذرأ في الأرض. فالمعنى: أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية. وانتصاب {مختلفاً ألوانه} على الحال، و{ألوانه}: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكلّ في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرّده {إِنَّ فِى ذَلِكَ} التسخير لهذه الأمور {لآيَةً} واضحة {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر، استدلّ على المطلوب، قيل: وإنما خصّ المقام الأوّل بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة. وخصّ المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة، وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحداينة فلا عقل له. وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة. فمن شك بعد ذلك، فلا حسّ له. وفي هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى: أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدّم في إفراد الآية في البعض، وجمعها في البعض الآخر. وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر، ولذكر التعقل، ولذكر التذكر، لاعتبارات ظاهرة غير خفية. فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة. {وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر} امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة، وتكميلاً للإنذار، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} المراد به: السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي: لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وظاهر قوله: {تَلْبَسُونَهَا} أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي: يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَهَا} بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهنّ من جملتهم، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهنّ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان. {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} أي: ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها. ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شقّ الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل: مواخر جواري، وقيل: معترضة. وقيل: تذهب وتجيء، وقيل: ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} معطوف على {تستخرجوا}، وما بينهما اعتراض، أو على علة محذوفة تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا أي: لتتجروا فيه، فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم، اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان. قيل: ولعلّ وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له. ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد، المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى، فقال: {وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ} أي: جبالاً ثابتة، يقال: رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر: فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون، والميد: الاضطراب يميناً وشمالاً، ماد الشيء يميد ميداً تحرّك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر {وأنهارا} أي: وجعل فيها أنهاراً، لأن الإلقاء، ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} [طه: 39]. {وَسُبُلاً} أي: وجعل فيها سبلاً وأظهرها وبينها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم. والسبل: الطرق {وعلامات} أي: وجعل فيها علامات، وهي معالم الطرق، والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} المراد بالنجم: الجنس، أي: يهتدون به في سفرهم ليلاً. وقرأ ابن وثاب " وبالنجم " بضم النون والجيم، ومراده: النجوم فقصره، أو هو جمع نحو كسقف وسقف. وقيل: المراد بالنجم هنا: الجدي والفرقدان قاله الفراء؛ وقيل: الثريا، وقيل: العلامات الجبال، وقيل: هي النجوم، لأن من النجوم ما يهتدى به، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها. وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار؛ وقيل: هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك. قال الأخفش: ثمّ الكلام عند قوله {وعلامات}، وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول؛ ثم لما عدّد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه. وأطلق عليها لفظ «من» إجراء لها مجرى أولى العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة، أو مشاكلة لقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ} لوقوعها في صحبته، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه تعالى الله عما يشركون. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرّده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرّد التذكر لها. ثم لما فرغ من تعديد الآيات، التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم، قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم. قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟. يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوارتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال: العفو يرجى من بني آدم *** فكيف لا يرجى من الربّ فقلت مذيلاً لهذا البيت الذي هو قصر مشيد: فإنه أرأف بي منهم *** حسبي به حسبي به حسبي وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه، والقصور عن إحصائها، والعجز عن القيام بأدناها، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها. اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كل زمان، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك، وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أرَ عليه بقيتها، فأني أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها؟ ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم، لا تخفى عليه منه خافية فقال: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} أي: تضمرونه من الأمور {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي: تظهرونه منها. وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ، وتنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بالسرّ والعلانية، لا كالأصنام التي يعبدونها، فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلاً عن السرائر فكيف يعبدونها؟. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض} قال: ما خلق لكم في الأرض مختلفاً من الدواب، والشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة، فاشكروها لله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} يعني: حيتان البحر {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: هذا اللؤلؤ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} قال: هو السمك وما فيه من الدواب. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر، قال: ليس في الحلى زكاة، ثم قرأ {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. أقول: وفي هذا الاستدلال نظر، والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف، ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدلّ على وجوب الزكاة فيها. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {مَوَاخِرَ} قال: جواري. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة {مَوَاخِرَ} قال: تشقّ الماء بصدرها. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك {مَوَاخِرَ} قال: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال: هي التجارة. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {رَوَاسِىَ} قال: الجبال، {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} قال: حتى لا تميد بكم، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ، فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله الجبال، وهي الرواسي أوتاداً في الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَسُبُلاً} قال: السبل هي الطرق بين الجبال. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب عن قتادة {وَسُبُلاً} قال: طرقاً {وعلامات} قال: هي النجوم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال: علامات النهار الجبال. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الكلبي {وعلامات} قال: الجبال: وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس {وعلامات} يعني: معالم الطرق بالنهار {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني بالليل. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} قال: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تُخلق شيئاً، ولا تملك لأهلها ضرّاً ولا نفعاً.
|